منهج دراسة السيرة النبوية

0 التعليقات
العلم يشرف بشرف معلومه ، والمعلوم في علم السيرة النبوية هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - ، ولابد لمن يريد معرفة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يستقيها من المصادر المعتمدة ، وأن يتبع المنهج الصحيح في دراستها ، والذي ينبغي أن يكون منطلقا من عزة الإسلام ، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً غيره ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(آل عمران:85) ، وأن الإسلام لا يمكن أن تتم معرفته إلا بمعرفة ودارسة سيرة وحياة هذا النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وقد كُتِبَت في السيرة النبوية كتابات كثيرة ، ولكن تلك الكتابات لم تكن على نحوٍ واحد من جهة اختلاف مناهج أصحابها ، وأهدافهم من كتابة السيرة ، فمناهج الباحثين في السيرة النبوية كثيرة ومختلفة :

منهج المبالغين الغالين :

الذين يُضْفون على النبي - صلى الله عليه وسلم - صفات لا تليق إلا بالله - عز وجل - ، فهؤلاء يبالغون في إطرائه ، ولا يبالون في صحة ما يروون أو ينقلون ، ولا يعتمدون على المصادر الأصيلة والصحيحة من كتب السنة والسيرة ، رغم أن خصائصه ومعجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي ذكِرَت في القرآن الكريم ، وجاءت في السنة الصحيحة والآثار المعتبرة من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي لا يشهد لها سند صحيح ، ولا نقلٌ مُوثَّق ، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تُطْروني (تبالغوا في مدحي ) كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله )(البخاري) .

 منهج الباحثين الغربيين :

وهذا المنهج يسلكه أغلب المستشرقين ومن شاكَلهم من الكُتَّاب والمفكرين المنتسبين للإسلام ، فهؤلاء إذا تناولوا السيرة النبوية بالبحث والدراسة تعاملوا معها كما يتعاملون مع سيرة أي زعيم أو بطل أو قائد ، فيتحدثون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يتحدثون عن هؤلاء ، ويصفونه بالبطولة والعبقرية والزعامة أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تُغْنِي عن مقام النبوة .

فيتحدثون عن سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثاً مادياً ، دون ربط لها بالوحي والغيب ، والتأييد الإلهي ، وكأنهم يتحدثون عن سيرة أحد الأبطال والزعماء المعروفين في هذا العصر . مع أنهم يثنون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصفونه بأوصاف كبيرة ، ويفضلونه على غيره ، ولكن الخطورة تكتنف هذا المنهج من جهة قطعه عن الصلة بالله ، وعن الإيمان بالغيب .

وبعضهم يحكمون العقل في النصوص ، فيردون أحاديث ووقائع صحيحة تتعارض مع عقولهم وأفكارهم ، وينكرون عدداً من المعجزات الثابتة بصريح القرآن ومتواتر السنة ، كنزول الملائكة في بدر ، والطير الأبابيل ، وشق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والإسراء والمعراج . 

فيصفون الإسراء والمعراج بسياحة الروح في عالم الرؤى ، ويفسرون الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي ، ووصف الطير الأبابيل بداء الجدري، وأن شق الصدر كان شيئاً معنوياً ، وأن لقاء جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء كان مناماً ، إلى غير ذلك . وهكذا تُفَّرغ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحقائق الغيبية ، والمعجزات التي لا تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه التي يدَّعون أنهم يسيرون على وفْقها ، لأن الله هو خالق النواميس ، وهو القادر على خرقها متى شاء بآيات ومعجزات على يد أنبيائه ، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ }(الحديد: من الآية25) .

ثم إن العقل السليم لا يتعارض مع النقل الصحيح ، فما صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أخبار يقبلها العقل ولا يردها ، وإذا لم يحصل الاتفاق والتطابق بين العقل والنقل الصحيح على أمرٍ ما تعين اتهام العقل ، كما ثبت عن سهل بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم " ، وكما جاء عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه "  هذا من جهة ومن جهة أخرى العقول تتفاوت فقد يقبل هذا ما لا يقبله هذا .

منهج السلف ومن سار على هديهم :

وهو المنهج الصحيح والمطلوب السير عليه في دراسة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو الذي ينكر منهج الغلو والمبالغة في إطراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما ينكر الأسلوب المادي الفلسفي في دراسة السيرة النبوية ، فالمنهج الصحيح هو الذي يعتمد في دراسة السيرة واستلهام الدروس والعبر منها على القرآن الكريم ، والمصادر الأصيلة الصحيحة من كُتُب السنة والسيرة ، دون مبالغة في إطراء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراجه عن وصف العبودية ، ودون إغفال لمقام النبوة الذي يعلو به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سائر البشر .

وهو المنهج الذي يقوم ـ أيضاً - على الإيمان بالغيبيات ، والمعجزات الكثيرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي أكرمه الله بها ، فهو أكثر الرسل معجزة ، وأبهرهم آية ، فله من المعجزات ما لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ ، وقد أُلِّفت في معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ المؤلفات الكثيرة ، وتناولها العلماء بالشرح والبيان ، كما قال ابن القيم ـ بعد أن ذكر معجزات موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ : " .. وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بُعْدِ العهد وتشتت شمل أمتيهما في الأرض وانقطاع معجزاتهما ، فما الظن بنبوة مَنْ معجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب ، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم ، ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن .."  بل إن سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأحداثها ومواقفها ـ ذاتها ـ معجزة من معجزاته ، وآية من آيات نبوته كما قال ابن حزم : " .. فإن سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقاً ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى .." .

فلم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه ، ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله بوحي من عنده ، قال الله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(النجم 3 : 4) ، وقد أُوتِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من جمال الصُّورة ، وتمام الخِلقة ، وحُسن الخُلُق ، والرِّفق في المعاملة ، والعدل في الغضب والرِّضا .

لقد فرضت سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسها على المسلمين بالعناية والاهتمام بها ودراستها ، وذلك لأن سيرتـه - أقواله وأفعاله - هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ـ بعد القرآن الكريم . ومن ثم يتضح لنا أهمية دراسة السيرة النبوية في ظل منهج علمي صحيح ، يسعى إلى بناء السلوك وفق هَدْي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخلاقه ، ويساعد على التقدم في مجال البناء الحضاري للأمة المسلمة التي تقتفي أثر نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم ـ ممتثلة قول الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) .
 

 

جميع الحقوق محفوظة لـ مدونة خواطر إيمانية